في خماسية مدن الملح، تلك الرواية الشهيرة لعبدالرحمن منيف. وفي الجزء الأول منها (التيه)، يذكر عدد من المشاهد الجميلة، التي تحكي لنا التغييرات الكبيرة التي تحصل في المنطقة الشرقية من السعودية في أول مراحل اكتشاف النفط. حيث يصور لنا غرائبية الإنسان في تعامله مع الأشياء المجهولة خارج نطاق معارفه وإدراكاته الطبيعية. بحيث يحاول منيف بأن يوحي لنا عن تأثير الصور الذهنية التي يرغب القائد في صناعتها في مخيلات الآخرين، وذلك بتصويره لأمير المنطقة، ذلك البدوي الحازم والذي يدير المنطقة. في تعاملاته مع الأشياء والمخترعات الجديدة التي بدأت الدخول بالتوازي مع دخول الشركة الأمريكية الجديدة المنقبة عن الزيت.
المشهد الأول: عندما أُهدي للأمير (الراديو)، ومع انبهاره العظيم بهذا الصندوق، إلا أن الحذر المتمكن من شخصيته البدوية لا زال هو الشعور المسيطر في كل نظراته تجاه هذا (الماخوذ) كما تقول الرواية. ولذلك سار بداخل شخصية الأمير خطان متوازيان حيال هذا الأمر، شعور الإعجاب بنقله لكل الأحداث والفنون والأخبار العالمية في لحظات معدودة، والإحساس بالخوف من هذا الشيء العجيب الذي لم يعد يبقي ولا يذر شيئاً من الدنيا لم يأت به.
ومع السرعة في البناء الازدواجي لهذين المسارين، إلا أن الأمير البدوي الشجاع انحاز إلى عقله الغير مستوعب لهذا الصندوق الصغير، إذ أخذ يحاول اكتشاف السر بداخله، وليتأكد من صدقية الاشاعات التي بدأت تسري في المنطقة بأنه هناك أشخاص كثيرين يسكنون داخل الصندوق وأنهم سيفعلون أمراً سيئاً عندما تحين الفرصة. تقول الرواية: بأن الأمير أمر اثنين من العاملين عنده برفع الصندوق لأعلى ما يمكن، وأخذ الدربيل وبدأ يحدق فيه من الأسفل ومن جوانبه المحيطة، ثم لما يجد أحداً بالداخل يبدأ بالضرب عليه وكأنه يقرع على باب منزل من أجل أن يرد عليه من بالداخل.
المشهد الثاني: عندما أرادت قيادة شركة الزيت أن تقود التغييرات في مناطق عملها. فإنهم جلبوا كل ما يرون أنهم يحتاجونه من ماديات ومخترعات الحياة المختلفة. ومن ضمن هذه الماديات، جاءوا بالصندوق المدولب الضخم العجيب الذي ينطلق كانطلاقة الأرنب ويلتف كالتفافة الثعلب.
وفي إحدى زيارات الأمير للشركة، أراد القياديين فيها أن يركبوه في هذا الصندوق، إلا أنه تمنع عنه. ومع اصرارهم عليه اضطر للركوب بداخله. قاد المهندس الأمريكي (السيارة) والأمير مرتعب بشكل كبير منها، وأشد ما قتله رعباً وخوفاً، حركة المهندس بيده وهو يلوح للاخرين بكل بساطة من النافذة بينما يده الأخرى تمسك المقبض بكل سهولة، في الوقت الذي كانت يدي الأمير متشبثتان بكل قوتها بالمراتب التي يجلس عليها.
في وجهة نظري أن هذين المشهدين، تعطينا الانطباع الأولي بالسذاجة التي تعامل فيها الأمير مع تلك الأشياء الجديدة. ولكني أرى أن الأمير كان شجاعاً جداً في تجريبه لتلك الأشياء. حيث أنه أخرج روحه بنفسه من المناطق الفكرية التي رسمتها له بيئته المحيطة. ولو كان أحداً منا في ذلك الموقف أو ذلك المشهد كما تحكيه الرواية، لما تجرأ في تجربة تلك الأشياء. وذلك لأن الثقافة المجتمعية التي سرت بين كل الآخرين هي ثقافة الخوف والرهبة من هذين الشيئين.
لا يوجد أشجع منك يا صديقي عندما تخرج عن القيود التي صنعتها أو صنعتها لك بيئتك التي خلقت فيها، وتعيش في بحار التغييرات الإيجابية التي تجعلك تجرب الخوف، وتتعود على اقتحام الأشياء الجديدة وتصنع منك انسانً تقدمياً شجاعاً ومبادرا..
فيصل المسعري
@faisalmsdd