احتضنت المدينة المنورة الرجل العائد إليها من خندق المعاناة.. ربتت على كتفه وهدأت من روعه وأكدت له بصوتها الحنون إنه اليوم على تراب مدينة قدمت على مر الأزمان مراهم الأمان لكل من جاءها مرتجفًا.
دعته لركعتي شكر في رحاب الروضة الشريفة. ركعتان كفيلتان بمحو كل ذكريات الاعتقال التى تجرع مراراتها وحيدًا وبعيدًا.
إنها حكاية تقطر حروفها وجعًا كان بطلها وضحيتها المعتقل السعودي العائد من العراق أحمد ضبيب البناقي الذي وصل أمس الأول إلى مطار الأمير محمد بن عبدالعزيز الدولي في المدينة وملامحه حيرى بين دموع تنساب بقوة وابتسامة ترتسم على الثغر بنفس القوة.. إنها إنها الحيرة – كما رصدتها كاميرا «المدينة» قلب يرقص ويرتجف فى آن.ولسان يتمتم بالدعاء ويعجز عن الكلام. المدينة رافقته ووقفت على لحظات كالعمر الطويل فتعالوا نسمع لصوته وصمته معًا.
تحدث البناقي في اللحظات الأولى له في المدينة المنورة والتي يستعد بعدها للعودة لمسقط رأسه في حفر الباطن عن بداية وصوله إلى بغداد عبر مطارها الدولي قبل نحو عامين مستخدمًا أوراقًا نظامية صادرة من الجهات الرسمية العراقية، ثم تحدث عن اللحظات الأولى له في بغداد وكيف استطاع الوصول إلى مدينة الموصل شمال العراق، حيث كان يقصد زيارة أهل زوجته هو وأسرته المكونة من خمسة أشخاص، وكيف فاق بعد ذلك على أسلحة الجيش العراقي عندما هجموا على المنزل الذي كان يقطنه في الموصل واقتادوه بعد ذلك لرحلة العذاب كما أطلق عليها أحمد البناقي، والتي مرت بسلسلة من مراحل التعذيب، حيث كانت أنواع من وسائل التعذيب تستخدم بحقه، منها الجسدي والمعنوي، لحظات صعبة رواها البناقي لـ «المدينة» خلال لقاء استمر أكثر من ٣ ساعات في الفندق الذي يسكن فيه هو وأسرته ووالدته وأبناء عمومته بالقرب من المسجد النبوي الشريف، حيث استضافهم الأمير محمد بن نايف وزير الداخلية لقضاء أيام قليلة في المدينة المنورة.
حياتي فى خطر
قال البناقي: «قررت قبل نحو عامين القيام بزيارة إلى أهل زوجتي في مدينة الموصل العراقية، وذلك بعد نحو ١٢ عامًا لم تتمكن زوجتي وأبنائي من رؤية أهلهم وأقاربهم في العراق، وبالفعل استطعت الحصول على جميع الأوراق النظامية التي تسمح لي بدخول العراق دون أن أتعرض للمخاطر المحتملة، وعند وصولي لمطار بغداد بدأت بإجراءات الحصول على الفيزا والتي تسمح لي بالتنقل داخل العراق والتوجه لمدينة الموصل شمال العراق، وأضاف البناقي منذ تلك اللحظة شعرت بأن هناك إجراءات غير واضحة قد تعرض حياتي للخطر، حيث بدأت بوضع بيانات غير صحيحة على فيزا الدخول، تمثلت بتجاهل كتابة أسماء ٢ من أبنائي وكذلك تزوير في تاريخ الدخول، بالإضافة إلى تغيير وجهة السفر الداخلي من شمال العراق إلى جنوبها، وأضاف لم يكن باستطاعتي إلا القبول بالواقع، حيث لم يمكنني التراجع حينها.
نقاط التفتيش
وأكمل البناقي قائلًا: إنه توجه بعد ذلك إلى الموصل واستطاع أن يتجاوز الكثير من نقاط التفتيش، وذكر وصلت أنا وأسرتي إلى منزل والد زوجتي، حيث مكثنا هناك نحو شهر كامل بدون أي مشاكل، إلا أن هناك متابعة لتحركاتي داخل الحي الذي أسكنه من قبل رجال الجيش العراقي.
بعدها قررت أن أعود إلى الوطن، وبالفعل تم إنهاء كافة الإجراءات، إلا أنه في الليلة التي سبقت رحلة العودة وعند الساعة الثانية ليلًا، فؤجت بهجوم أفراد من الجيش العراقي على الغرفة التي أنام داخلها، حيث لم أشعر إلا بالأسلحة التي كانت فوق رأسي، وكنت أعتقد أن ذلك حلمًا ولكن اكتشفت بعد ذلك أن واقع مرير وأن المستهدف هو «أنا» وهنا بدأت رحلة العذاب، حيث تم اقتيادي بالقوة الجبرية إلى حوش المنزل وتعرضت للضرب والركل، حيث طلب مني أفراد الجيش العراقي بأن أتوجه معهم إلى «الفوج» وهو مشابه لقسم الشرطة، ومن الفوج تم تحويلي إلى «سيطرة الشلالات» وهو سجن للتحقيق.
مراحل التعذيب
وهنا ذكر البناقي تعرضت لفصول من التعذيب في سجن التحقيق تنوعت بين المعنوي والجسدي، حيث كنت أتعرض للضرب بشكل مستمر، وكذلك خلع ملابسي وصعقي بالكهرباء على جميع أجزاء جسدي، وكان ذلك كله لإجباري على الاعتراف بأنني قدمت العراق بقصد الإرهاب، وكان كل من يقوم بتعذيبي من الطائفة الشيعية، حيث يظهر ذلك من الألفاظ التي يتلفظون بها، وأضاف البناقي تعرضت لجميع أنواع التعذيب «خلع الملابس» و»الحبس داخل الأكياس» والتعليق وتعرضت لكسر في اليد اليسرى والرجل اليمنى، بالإضافة إلى أشد أنواع التعذيب وهو مايعرف بـ «العقرب» وهو عبارة عن عكس اتجاه الأيدي والأرجل والبقاء بتلك الحالة لمدة ٦ ساعات، بالإضافة إلى محاولة قذفي من الطابق الثالث باتجاه الأرض، وأضاف هذا كله كان في الموصل وعندما فشلوا في أخذ اعتراف مني بكوني إرهابي قرورا إعدامي.
سجن بغداد
وأضاف البناقي علمت بعد ذلك أن الإعدام هو نقلي لسجون بغداد، وبالفعل تم اقتيادي داخل سيارة بعد ربطي وتغطية عيوني في رحلة استمرت نحو ٦ ساعات، كنت أتعرض فيها للضرب المستمر والركل وحرماني من الطعام والماء، وأنواع السب والقذف والشتم، وذلك حتى وصولي سجن مطار المثنى في بغداد وهو السجن التحقيقي والذي يعرف عنه وجود أفراد متخصصين في التعذيب ونزع الاعترافات الكاذبة، وبالفعل في ذلك السجن شاهدت أقسى أنواع التعذيب الجسدي والمعنوي والذي استمر لنحو ٥ أشهر ونصف، فشلت جميع محاولات التعذيب في نزع اعتراف مني بأنني إرهابي وانتسب للمجاميع الإرهابية في العراق.
وذكر البناقي استمر التعذيب داخل سجن مطار المثنى حتى حدوث ثورة العشائر في الأنبار، حيث تغيرت معاملة السجناء وبدأ التعامل معهم بشكل أفضل من السابق، وهنا قام قيادي في السجن يعرف بالحاج حسين باستدعائي وذكر لي أنه تأكد من عدم انتمائه للمجاميع الإرهابية، وأضاف هو الشخص الوحيد الذي لم يطلب مني التوقيع على بيانات غير صحيحة، وبالفعل قمت بالتوقيع على البيانات الصحيحة في مكتب الحاج حسين.
سعوديون في سجون بغداد
وهنا ذكر البناقي أن سجون بغداد فيها عدد من السعوديين لم استطع إحصاء عددهم ولكن كان هناك رجل مسن يبلغ من العمر ٧٤ عامًا كان يتعرض للضرب بشكل مستمر، بالإضافة إلى عدد من السعوديين المتواجدين في سجن مطار المثنى ينتظرون مصيرهم وهم يتعرضون لوسائل التعذيب المختلفة، وذكر أن السعوديين كانوا يتعرضون لتعذيب قاسي من قبل الطائفة الشيعية وخفت وتيرة التعذيب بعد صدور اتفاقية تبادل السجناء بين المملكة والعراق ولكن ما لبثت أن عادت وسائل التعذيب بعد وصول أنباء عن توقف تنفيذ الاتفاقية في الوقت الراهن.
أنواع التعذيب
وأضاف البناقي أنه تنقل بين سجون بغداد، حيث شاهد في كل سجن أنواع من التعذيب وذلك بعد أن فشلت جميع المحاولات في نزع اعترافات كاذبة مني، وأضاف كان يتم التعامل مع المعتقلين السعوديين بكل عنف وقسوة وتهديد يومي بالقتل رميًا بالرصاص وأضاف البناقي بعد نحو عام في سجون بغداد لا أعلم فيها شيئًا عن العالم الخارجي تم اتخاذ قرار بعودتي إلى الموصل وسجني في سجن الموصل والذي مكثت فيه نحو ٩ أشهر دون صدور أي قرار بحقي وهناك استطعت أن اتواصل مع أسرتي، حيث طلبت منهم تحويل مبالغ نقدية للقيام بتوكيل محامي يترافع عني لإخراجي من السجن.
ليلة الهروب
وأضاف البناقي في منتصف العام الماضي حصلت ثورة العشائر في الموصل والتي نتج عنها قيام الثوار بتحرير السجناء من سجن الموصل، حيث شاهدت عدد من الثوار يطلقون الرصاص على أبواب السجن الخارجي والداخلي، وبالفعل قام جميع السجناء بالهروب، وكنت السعودي الوحيد في سجن الموصل، وهنا روى البناقي قصة هروبه المثيرة من سجن الموصل، وكيف استطاع أن يقفز من جسر علوه يقارب المترين ليتجه إلى المنزل الذي تسكنه أسرته، حيث كانت الصدمة بأن أسرته نزحت من الموصل إلى كردستان.
رحلة البحث عن الزوجة والأبناء
وهنا ذكر البناقي أنه التقى بأحد الجيران والذي أخبره بمكان أسرته في كردستان العراق، وأضاف هنا بدأت رحلة أخرى من العذاب وهو كيف استطيع تجاوز نقاط التفتيش بدون هوية للوصول للأسرة، وأضاف كان هناك نزوح كبير من أهالي الموصل استطعت استغلال ذلك والوصول إلى أسرتي بعد غياب قارب العامين عنهم.
العودة للموصل
وهنا ذكر البناقي قررت العودة إلى الموصل لخطورة تواجدنا في كردستان دون أوراق ثبوتية وبالفعل عدت للموصل، حيث التقيت بعدد من الثوار وتفهموا موقفي ووعدوني بأنهم سيحضرون كامل الأوراق خلال يومين وهذا ما حصل بالفعل.. وقمت بمحاولة دفع مبلغ 200 دولار للشخص الذي سلمني أوراقي لكنه رفض ذلك.
وقال لي استلم أوراقك وإن احتجت للمال سوف أعطيك مبلغًا يساعدك في الوصول لبلادك وكل ما تريده نحن جاهزون».
وذكر البناقي بدأت بالتخطيط للخروج من العراق إلى سورية ومنها إلى تركيا. وقال «لقد اجتهد معي الثوار في الموصل وقاموا بإخراجي أنا وزوجتي وأطفالي على سيارة إلى منطقة بعاج وهي تبعد حوالى 170 كلم عن الموصل وبقيت فيها ثلاثة أيام لأن الجميع كان خائفًا من أي هجوم يحصل على المحافظة».
وأضاف «بعد ذلك أخرجوني برتل من العراق حتى أدخلوني الأراضي السورية، ثم بقيت داخل سورية لمدة يومين حتى وصلت طرابلس حتى أتمكن من دخول تركيا، حيث كانت رقابة الحدود مكثفة لمنع أي تسلل واتصلت بشخص تركي الجنسية وفرته لي سفارة خادم الحرمين الشريفين في أنقرة اسمه أبو كاظم كان ينتظر وصولي، وأضاف عندما اقتربت من الحدود التركية أخبرته بذلك وأخذت زوجتي وأطفالي ونزلت من السيارة وانطلقنا نركض لمسافة كيلو متر تقريبًا حتى دخلنا الحدود التركية واستقبلتني سيارة كان قائدها ينتظرني بتنسيق مسبق مع من ساعدوني بالهرب من العراق، وبعدها انتهت المعاناة، حيث وفر لي كامل احتياجاتي من مأكل وملبس».
الشكر موصول
وفي ختام حديثه للمدينة تقدم البناقي بالشكر لخادم الحرمين الشريفين والحكومة الرشيدة وسفارة خادم الحرمين الشريفين في الأردن وتركيا، على رعايتهم للمواطنين والسجناء وتوفير كامل الإمكانيات لهم بالرغم من الظروف الصعبة آلتي تواجه عمل تلك السفارات.