[COLOR=red]د. يوسف بن أحمد العثيمين[/COLOR]
تمرّ بنا هذه الأيام مناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان، ولا يمكن أن تمرّ هذه المناسبة دون وقفة تأمل ومراجعة، وكشف حساب حقوقي إنساني سعودي، كي نعرف موقعنا - كدولة ومجتمع - في مجال حقوق الإنسان..
لقد مرّ علينا ردح من الزمن ونحن (نتوجسّ) خيفةً من هذا الموضوع إثارةً ونقاشاً، ناهيك عن عدم وجود مؤسسات تًوكل إليها هذه المهمة.. كنا إلى عهد قريب ننظر إلى مسألة حقوق الإنسان وكأنها جسم غربي وغريب، لا يُلائم المجتمع السعودي، ولا يتسّق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، وإنما هي منتج قادم من الغرب،لا يناسبنا في أحسن الأحوال، أو أن هدفه النيل منا ، والإساءة للمملكة ديناً ودولةً ومجتمعاً، في أسوأ الأحوال..
كل هذا تغيرّ، وأقدمت المملكة - بدايةً - على الترخيص لجمعية أهلية تُعنى بحقوق الإنسان، ثم - مؤخراً - أُنشئت هيئة حكومية لهذا الغرض.. وما زالت تتلمسّ طريقها لتحقيق رؤيتها ورسالتها التي أُنشئت من أجلها..
ومع أن التجربة ما زالت في مرحلة (جنيّنية)، إلا أن مجرد وجود مؤسسات - حكومية وأهلية - لحقوق الإنسان على أرض الواقع لهو إنجاز يُحسب للدولة السعودية،ضمن منظومة وعجلة الإصلاح الوطنية التي تندفع في كل إتجاه..
لقد بدا واضحاً أنه ليس لدينا ما نخفيه أو نخافه.. وينبغي أن يكون هذا هو العنوان العريض الذي يقودنا ونحن نقّيم مسار ومسيرة وتقدم جهد المملكة في مجال حقوق الإنسان..
ليس لدينا ما نستحي منه، أو نخشى عليه، أو ما لا يمكن الدفاع عنه إذا نحن استطعنا، عبر هذين الجسمين (الهيئة والجمعية)، من إدارة المعركة بذكاء، وحسّ حقوقي متميز..
أذكر على سبيل المقارنة تجربة مجلس الشورى التي لا تختلف كثيراً في التوجس الذي صاحب إرهاصاتها عن تجربة حقوق الإنسان.. لقد خشي المتوجسون من التجربة الشورية من أنها سوف تفتح أبواب جهنّم على الاستقرار السياسي، والسلام الاجتماعي، اللذين نعمنا بهما عقوداً من الزمن، وأثبتت الأيام عكس ذلك، وكانت التجربة الشوّرية السعودية مصدر ثراء ودعم للنظام السياسي والاستقرار الاجتماعي، ومنبراً للتعبير الحرّ عن هموم المواطن، ودعامة للمصالح واللحمة بين المواطنين..
لقد استطاع الرئيس الأول للمجلس، المرحوم الشيخ محمد بن جبير، وهذا يُحسب له إذا ذُكر المجلس، أنه استطاع أن يُهدي من روع المتوجسين والخائفين، من أن تنفرط الأمور، وتخرج عن اليد، وقاد السفينة بنجاح وذكاء إلى برّ الأمان، وأقنع غير المقتنع أن مجلس الشورى، تجربة وممارسة، أصبح دعامة حقيقية للنظام السياسي السعودي..
إن المأمول أن تستفيد الهيئة والجمعية من تجربة مجلس الشورى، من جهة أن يجد هذان الجسمان التقدير المجتمعي، والاعتراف الرسمي بالدور الإيجابي لهما، في خدمة الإنسان السعودي، وضمان استقرار المجتمع، ودعم مسيرة الإصلاح، وتعزيز ركائز الحكم، والرهان على حيوية النظام السياسي السعودي..
نعم، ليس لدينا تجارب من سبقونا في مجال حقوق الإنسان، على الأقل فيما يتعلق بالممارسات والتنظيمات والتشريعات الواضحة المكتوبة، ولا عيب أن نتعلم، ولو بأسلوب المحاولة والخطأ، ولكن لدينا تراث ثريّ، وزاخر بالأمثلة والممارسات، التي يمكن أن (نعصرنها)، ونبعث روح الحياة فيها، ونؤطرها، ونقنّنها بحيث تشكل في مجموعها أساساً صلباً في مجال حقوق الإنسان، نقدمه للعالم من معجبين ومن منتقدين..
وفي تقديري أننا قادرون على ذلك، إذا نحن عملنا على مسارين.. الأول، تطوير مفهوم (محلي) في مجال حقوق الإنسان، ينسجم مع طبيعة المجتمع السعودي، ولا يتناقض مع المبادىء العالمية، ولكنه (حساّس) للشؤون المحلية، التي يشعر المواطن السعودي أنها تشكل ركائز أساسية لضمان حقوقه كمواطن، وصيانة كرامته كإنسان.. والمسار الآخر، هو تطوير نموذج لحقوق الإنسان يتكىء على المفهوم الشرعي والإسلامي لحقوق الإنسان ويؤصله..
ودعوني أفصّل قليلاً: ففي الجانب المحلي، لدينا قضايا ومسائل ينتقدنا عليها الآخرون، إما لكونها ممارسات اجتماعية خاطئة ورثناها بحكم طبيعة المجتمع وتكوينه في السابق، عندما كان الجهل والعزلة والانغلاق والتشتّت والفرقة ضاربة أطنابها، أو ناتجة عن الطبيعة القبلية والعشائرية، ولم تعد صالحة لمجتمع يدلف أعتاب الألفية الثالثة، وبالتالي، لا يمكن أن ينأى بنفسه، وينغلق على ذاته، بحجة خصوصية مقيتة، تجعله نشازاً أمام هذا الانفجار الهائل في المواصلات والاتصالات، وكون العالم أصبح قرية كونّية، وإلا واجهنا العزلة والتندّر، وأصبحنا مادة لنقد الصحافة والإعلام والفضائيات، فضلاً عن ضغوط الدول الكبرى، وانتقاد مؤسساتها التي تُعنى بحقوق الإنسان..
نحتاج في هذا المفهوم المحلي لحقوق الإنسان أن نطور معايير محلية لنا، ونقدمها للعالم، نقيس على أساسها مدى تقدمنا في مجال حقوق الإنسان، ونفخر بها متى ما أنجزنا تقدماً ملموساً فيها..
خذ مثلاً، حق التعليم، وحق الصحة، وحق التقاضي، وحق الرعاية الاجتماعية، وهذه كفلها النظام الأساسي للحكم، والحقوق السياسية مثل (مناصحة الحاكم)، ومجلس الشورى، وحرية التعبير التي تُمارس - الآن - عبر الصحف المحلية، فهذه حقوق حقيقية يتمتع بها المواطن.. ثم هناك موضوعات مثل الإيذاء الجسدي والنفسي ضد المرأة والطفل، وحقوق الزوجة، والعمالة المنزلية، وحقوق العمالة بشكل عام.. كل هذه الموضوعات من السهل جداً أن يتقبلها المجتمع إذا تم تنويره بها، وتؤيدها الدولة، وأنه متى ما حرصت (الهيئة والجمعية) على العناية بها تشريعاً وممارسةً استطاعت أن تقنع المجتمع الدولي بأن لدينا ممارسة حقيقية - وليست شكلية - في مجال رعاية حقوق الإنسان وصيانتها..
أما المسار الآخر، فهو أهمية العمل على تطوير وتأصيل مفهوم شرعي في مجال حقوق الإنسان مثل: مفهومات القوامة، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، وحقوق الوالدين، وحقوق العامل، والتسامح والرحمة والعدل الإسلامي في العلاقات الإنسانية..
إن المشكلة الحقيقية ليست في أنه لا يوجد في ديننا، وفي تراثنا الإسلامي رؤية أصيلة لمفهوم حقوق الإنسان، وإنما ينقصنا هو جمع هذه الرؤى وتلك الممارسات، وتصنيفها، وتطويرها، وتأصيلها، ثم مأسستها وتطبيقها..
من أهم مبادىء الإسلام الرفق والعدل، وهذا باب واسع يمكن أن تندرج تحته جميع الممارسات الخاطئة ضد الفئات الضعيفة في المجتمع السعودي، مثل المرأة والطفل والعامل.. ونحن هنا لا نخترع أو نبتدع، بل هي عودة فاحصة لما يؤمرنا به ديننا الإسلامي الحنيف لرعاية هذه الفئات، وصيانة حقوقها..
التحدي الحقيقي أمامنا في هذا المجال هو في مدى قدرة هذه المؤسسات ،وخصوصاً هيئة حقوق الإنسان، على بلورة مشروع شرعي بهدف لمّ شتات ما تناثر من هذه الحقوق، وصياغتها بأسلوب عصري، ويمكن الدفاع عنه أمام القضاء الشرعي، ثم نشرها للعامة..
إن التسامح والرحمة والعدل والقسط مع المسلم، أو غيره، يمثل مجالاً واسعاً أمام هيئة حقوق الإنسان يمكن أن تلج منه لصياغة مشروع حقوقي إنساني نستطيع أن نفاخر به أمام العالم ومنظماته الحقوقية للدفاع عن المملكة، ويعطي وجهاً حضارياً وإنسانياً لبلادنا ..يبقى هناك نقطة احتكاك مع العالم، في جزئيات رماّدية، مثل حرية ممارسة العبادة، وبعض الأحكام التعزيرية، وحقوق الأقليات، وحقوق المرأة، وهنا لن يعدم علماؤنا الأجلاء، بعد الرجوع إلى مقاصد الشريعة، والتراث الإسلامي، وممارسات من سبقونا، ليجدوا لنا المخارج الشرعية للتعامل مع هذه القضايا، وأن يصلوا إلى حلول وسط، لا يموت معها الذئب، ولا تفنى الغنم.. ثم أخيراً، من باب التمنيات، أن يفك الاشتباك الاختصاصي بين الهيئة والجمعية، بحيث تركز الجمعية على معالجة الحالات الفردية، في حين تضطلع الهيئة بمهمة نشر ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع، وسن التشريعات والتنظيمات، وإبداء مواقف معلنة تجاه الممارسات الحقوقية الخاطئة.